في أول أيام العام المنصرم 1438هـ فقدت والدي، قبل أيام كانت الذكرى الأولى لرحيله عن هذه الدنيا و حتى الآن لا يزال الحديث عن ذلك صعباً بالنسبة لي، و لا زلت أسهو كثيراً عن إضافة عبارة (الله يرحمه) كل ما ذكرته في حديثي.
عندما توفي والدي تأثرت كثيراً بوفاته لكل الأسباب الإنسانية الإعتيادية بالإضافة إلى أنني كنت أتمنى أن يكون بجواري ليلة عقد قراني و ذلك ما أتفقنا عليه أنا و هو .. لكن وافته المنية قبل أن يتم ذلك الإتفاق بثلاثة و أربعين يوماً، لم تسنح لي فرصة مشاهدة ردة فعله عند عقد قران أكبر أبنائه و لم تسنح لي فرصة تعريفه بزوجتي.
بعد أن خمدت عاصفة الحزن الأوليّ الهوجاء.. تبدلت تلك المشاعر بمشاعر حزنٍ من نوعٍ آخر، لم يكن لدي الكثير لأتذكر والدي به.
بالرغم من أنني أكبر الأبناء إلا أن ذلك لم يساعدني كثيراً، فقد إنفصل والداي و أنا في سنٍ مبكرة و بعد ذلك ببضعة سنوات أصبح والدي مُقعداً و فقد القدرة على الكلام.. عشرون عاماً من الحوارات بيني و بين والدي كانت من طرفٍ واحد.
مرت الأيام.. تزوجت.. و لا يزال ذلك الحزن يعتصرني.. لم يكن لدي الكثير لأحكيه لزوجتي عن والد زوجها الذي لم تسمح لها الأقدار بلقائه.
و في يومٍ من الأيام و بينما أتجول أنا و زوجتي في محل (فيرجن) بأحد المجمعات التجارية وقعت عيني على هذه التحفة الفنية الصغيرة..
جهاز العائلة (ميني) - نينتيندو |
عدت بالزمن ليوم إشترى لي والدي هذا الجهاز من البلد في بداية التسعينات و أنا لا أتجاوز السادسة و بدأت أحكي لزوجتي و أنا أقف أمامه عن ذكرياتي و أنا ألعب لعبة الكابتن ماجد و سوبر ماريو و أصرخ على والدي "بابا شوووف .. بابا شوووووف" و كيف كان ينتهي هذا الصراخ في أغلب الأحيان بهرب والدي من ضجتي إلى غرفة أخرى.
بعد ذلك بمدة ذهبت مع زوجتي إلى (تويز أر أص) لشراء "بازل" جديد لنتسلى بتركيبه في أوقات الفراغ و كادت أن تدمع عيناي عندما شاهدت هاتين اللعبتين لا يفصل بينهم سوى ممر واحد..
فشلنا فشلاً ذريعاً في تركيب الـ(ليجو) فأصبحت أكتفي بنثرها على الأرض حتى يدوس عليها هو و أمي، و نجحنا إلى حدٍ ما في تركيب سكة السيارات.. لولا أنه مع الأسف كانت السيارات لا تبقى في مسارها بل كانت تفضَل الطيران و الإرتطام بالحائط.
أذكر حتى أنني إنفعلت من خروج السيارات من مسارها و أخرجت دليل التركيب المكتوب باللغة اليابانية من كرتون اللعبة و أعطيته لوالدي و سألته ..
أنا: بابا .. تعرف تقرى صيني؟ خذ أقرى لي الكتالوج.
والدي: ما أقدر أقراه.. أنا أقرى صيني شعبي بس.
أنا: طيب شوف.. يمكن هذا صيني شعبي.
أذكر أنني لم أستوعب هذه الدعابة إلا بعد سنوات طويلة.
قبل أقل من شهرين صدرت لعبة (سونيك) على جهاز الـ(نينتيندو سويتش) فإشتريتها متحمساً، فقد قضيت أعواماً من طفولتي محاولاً إنهائها دون جدوى، و لسوء الحظ عندما شغلتها لأول مرة كانت زوجتي تجلس بجانبي و لا أعلم حتى اليوم إن كانت رأت تلك الدمعة التي نزلت على خدي عندما سمعت الصوت الذي يعرفه أبناء جيلي جيداً و هو يلحَن (سيييييجااااا) ..
فهذه اللعبة تعتبر أحد آخر الذكريات التي تجمعني بوالدي قبل إنفصاله عن والدتي، فقد كنت ألعبها في صالون الضيوف بحكم أن شاشة التلفزيون التي كانت هناك (21 بوصة) أكبر من شاشة تلفزيون غرفتي (14 بوصة) و كثيراً ما كان يؤدي ذلك إلى مناوشات بيني و بين والدي، هو كان يخرجني من الغرفة قبل قدوم أصدقائه و يطلب مني أن لا ألعب حتى يذهبون.. و أنا كنت أدخل فور حضورهم لأسلم عليهم "و أستأذنهم في اللعب بحضورهم" و بالطبع كانوا يضطرون لقبول طلب الطفل البريء.. و عادة ما كان ينتهي ذلك بعلقة ساخنة بعد ذهاب الضيوف.
لم تترك لي الأقدار الكثير من والدي حتى أتذكره به.. لكني لا زلت أراه بين زوايا تلك الأشياء البسيطة، لا زلت أرى منه ما يكفي ليذكرني بأهمية الذكريات و كم من المهم أن أصنعها بيني و بين كل من أحب، رغم كثرة ما تعلمنه من والدي إلا أن أكثر الدروس قيمةً.. علمني إياه بعد أن رحل عن هذه الدنيا.
رحمك الله يا أبا عبدالله كما ربيتني صغيراً.
ما دام من تحبون لا يزالون بينكم، إستغلوا الفرصة و شاركوهم في القيام بما يستحق الذكرى، فسيمضي عليكم .. أو عليهم زمن -أرجو من الله أن يكون بعد عمرٍ طويل- لا يبقى فيه سوى الذكرى.
شاركوني الدعاء لوالدي و لجميع موتى المسلمين بالرحمة و المغفرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق